معرض ندوة العلا العالمية للآثار

تمتاز العلا بمعالمها الطبيعية الغنية والمتنوّعة التي تعكس إرثها الثقافي العريق، بما يمنح كلّ مَن يزورها شعوراً بالدهشة والإعجاب والفضول لمعرفة المزيد عنها. فقد ساهم برنامج الأبحاث الأثرية، الذي يضمّ اليوم 12 مشروعاً للمسح والتنقيب يعمل على تنفيذها أكثر من 200 عالم آثار ومتخصّص في كافة أنحاء العلا، في تعزيز فهمنا لتاريخ المنطقة وطرق استخدام الأراضي وتمركز الإنسان في هذه المنطقة.

ويُظهر المعرض، الذي تمّ تصميمه بالتحديد لندوة العلا العالمية للآثار 2024، الشعوب التي توالت على هذه المنطقة وعبرت فيها على مدى آلاف السنين. فقد خلّفت هذه الشعوب أثراً مستدامًا وإرثًا عريقًا عند مرورها في هذه المنطقة، سواء عند رعيها قطعان الماشية، أو قيادة قوافل الجمال المحمّلة بالبخور أو مرور الحجاج فيها. وينعكس هذا الإرث جلياً وعلى نطاق واسع في الصروح المعمارية التي سادت في فترات ما قبل التاريخ وفنّ النحت على الصخور والنقوش من جهة، والآثار غير الملموسة التي تظهر من خلال الفنّ والثقافة والتقاليد والمعتقدات من جهة أخرى.

عصر ما قبل التاريخ

مرّت الشعوب على مدى آلاف السنين عبر العلا، مستفيدين ممّا تتغنّى به من معالم طبيعية لكونهم صيّادين متجوّلين. ونادراً ما يمكن العثور على دليل أثري يؤكد وجود هؤلاء المسافرين القدامى في تلك المنطقة، ما عدا بعض الأدوات الحجرية المصنوعة يدوياً مثل الفؤوس الحجرية في معظم الأحيان. وسرعان ما تصبح الأدلة أكثر وضوحًا في عصور ما قبل التاريخ اللاحقة، مع ظهور المعالم الأثرية الصخرية الضخمة مثل المصائد الحجرية والمنشآت الحجرية الضخمة المعروفة بالمستطيلات، بما يدلّ على تغيير ملحوظ في علاقة الإنسان بالأرض. ومع بدء ظهور ممارسات تدجين الحيوانات والزراعة في وقت لاحق، تغيرت الأنماط الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير مع التوجّه أكثر فأكثر نحو الاستقرار في مكان واحد، كما يظهر جلياً من خلال تطوّر العمارة المنزلية والحضرية خلال العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. ومنذ ذلك الحين، باتت العلاقة بين الذين فضّلوا الاستقرار وأولئك الذين واصلوا ترحالهم من مكان إلى آخر أكثر تغيّراً ويصعب الوقوف عليها من عدة جوانب في السجلات الأثرية. وما يتمّ استكشافه اليوم من خلال الأبحاث الأثرية ليس سوى انعكاسًا لأنماط معقّدة أكثر فأكثر من تطويع المعالم الطبيعية والتفاعل بين أفراد المستوطنات/الواحات والمجتمعات التي حافظت على نمط حياتها الرعوية القائمة على التنقّل المستمرّ.

الممالك العربية الشمالية القديمة

شهدت المراكز الحضرية تطوّرًا وازدهارًا كبيرًا في أواخر العصر البرونزي وعصر الحديد، في أعقاب تدجين الإبل الذي أتاح التجارة البرية وساهم في توسيع نطاقها، الأمر الذي أكد بدوره على أهمية الواحات التي لعبت دورًا محوريًا في صمود القوافل المحمّلة بالبخور وغيره من السلع ذات القيمة العالية من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مصر وبلاد الشام ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. وباتت مملكة "دادان" عندئذ، بفضل موقعها الاستراتيجي على طول "طريق البخور"، من أبرز المراكز الحضرية في شبه الجزيرة العربية خلال الألفية الأولى قبل الميلاد. وتشير الأدلة الأثرية الحديثة إلى هذه المدينة المتطوّرة ذات الهياكل المعمارية والاجتماعية والدينية المتقدّمة، فضلاً عن أثرها الواضح على الفنّ والعمارة والمعتقدات من خلال تفاعلها مع الأسواق التجارية في مصر وبلاد ما بين النهرين والبحر الأبيض المتوسط. وينعكس هذا الأثر جليًا في الأساليب والأنماط التي تميّزت بها تماثيل مملكة "دادان" وملاذها الجبلي الآمن في "أم درج".

واستمرّ التبادل التجاري والثقافي في القرن الأول قبل الميلاد في وادي العلا وتعزّز مع إنشاء مدينة الحِجر النبطية الأثرية. وكانت مدينة الحِجر ثاني أكبر مدينة تجارية في العالم بعد مدينة البتراء، حيث كانت تسيطر على طريق البخور والحدود الجنوبية للمملكة. وتعكس القطع الأثرية الفريدة من نوعها والتي تمّ اكتشافها من خلال أعمال التنقيب في الحِجر، بما في ذلك أقمشة الحرير والفخار والعملات المعدنية، طبيعة هذه المدينة وشبكة علاقاتها العالمية.

وبعد ضمّ الرومان لمملكة الأنباط في عام 106 بعد الميلاد، أصبحت الحِجر واحدة من أكثر المستوطنات بعدًا عن مقرّ الإمبراطورية، بما يؤكد أكثر فأكثر على الأهمية الاقتصادية لهذه المدينة في التجارة بين المناطق.

العصر الإسلامي

مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي ورحلة الحج إلى مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، شهدت حركة السفر عبر العلا والمنطقة المحيطة نموًا كبيرًا. وبالرغم من تراجع التجارة البرية لصالح النقل البحري عبر البحر الأحمر، إلّا أنّ أعداد المسافرين عبر طريق البخور واصلت الازدياد. وبدأت مجتمعات العلا والواحات المجاورة بتوجيه جهودها لتلبية احتياجات قوافل الحجاج الذين كانوا يصلون إليها بأعداد متزايدة، يطلبون الطعام والشراب.

وشهدت المنطقة تحولاً في حركة الاستقرار جنوباً، حيث تمّ هجر مواقع مثل الحِجر ودادان، وأصبحت قرح محطة أساسية على طريق الحج السوري الرئيسي، حيث أُشير إليها كواحدة من أعظم مدن غرب الجزيرة العربية بعد مكة والمدينة. وما زالت كنوز هذه المدينة الكبيرة تُكتشف تدريجيًا، حيث بدأت منازلها وشوارعها المنظمة تظهر من تحت رمال سهل القُرح الواسع. وتدل الجرار الإغريقية والفخاريات الصينية على اتصالاتها العالمية، بينما تعكس الخزفيات الإسلامية المزخرفة والمنازل الفسيحة ذات الفناءات المزينة وجود مجتمعٍ متطورٍ ومزدهر. لكن بحلول القرن الثالث عشر، هُجرت المدينة، لتصبح العلا "البلدة القديمة" في وسط الوادي بالقرب من دادان، مركز الاستقرار الرئيسي واستمرت كذلك حتى الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي بداية القرن العشرين تمّ إنشاء سكة حديد بين دمشق والمدينة، بما ساعد باختصار زمن رحلة الحج من أربعين يومًا إلى أربعة أيام فقط، وساهم بذلك بزيادة عدد الحجاج. واليوم، يستمر تدفق الزوار، الذين يجذبهم التراث الثقافي والطبيعي للعلا، ليكونوا أحدث المسافرين إلى العلا منذ 200,000 عام.

صورة توضيحية 1: ما قبل التاريخ

يُعدّ اللب بتقنية ليفالو تقنية مميزة في تصنيع الأدوات الحجرية طورها البشر الأوائل خلال العصر الحجري القديم الأوسط، حوالي 300 ألف عام مضى. وتتميز هذه التقنية بأسلوب متقدم في التشظية، حيث يتم تشكيل النواة الحجرية مسبقاً لإنتاج رقائق أو أدوات بأحجام منتظمة عبر ضربة واحدة دقيقة. تعكس هذه التقنية، المعروفة باسم "النواة المجهزة"، مستوى متقدماً من التخطيط الدقيق، والإتقان، وفهم خصائص المواد الخام. ومن الأدوات الناتجة عن هذه التقنية الشفرات والكاشطات، التي تميزت بفعاليتها في عدد  من الاستخدامات مثل القطع والكشط والصيد. تظهر تقنية ليفالو تطوراً جوهرياً في القدرات الإدراكية والمهارات الحرفية في صناعة الأدوات، مما يعكس سلوكيات معقدة داخل مجتمعات "أشباه البشر" وتكيفهم التطوري مع البيئات المختلفة.

 

الفؤوس اليدوية الحجرية الآشولية هي أدوات حجرية من فترة ما قبل التاريخ تُنسب إلى الإنسان المنتصب والإنسان العاقل المبكرويعود تاريخها إلى الفترة الممتدة بين 1.7 مليون إلى 100 ألف عام مضى. ظهرت هذه الفؤوس خلال العصر الحجري القديم الأدنى وتمتاز بشكلها الانسيابي المشابه للدمعة، وتقنية التشذيب المتناظر، والتكوين ثنائي الوجه، مما يمنحها حوافاً حادة تُستخدم في القطع والتقطيع. صُنعت هذه الأدوات متعددة الاستخدام غالباً من الصوان أو أنواع أخرى من الصخور دقيقة الحبيبات، واستُخدمت في مهام مختلفة مثل ذبح الحيوانات، والحفر، والعمل في الأخشاب. تعكس الفؤوس اليدوية الحجرية الآشولية مستوى متقدّماً من الابتكار البشري والمهارات المعقدة في تصنيع الأدوات، مما يمثل قفزة نوعية في التطور الإدراكي والتقني. وقد لعبت دوراً أساسياً في تعزيز بقاء الإنسان والتطور الثقافي عبر البيئات الطبيعية القديمة، حيث ظهرت في إفريقيا وانتشرت عبر أوروبا وآسيا مروراً بشبه الجزيرة العربية.

مثّلت رؤوس الفؤوس البرونزية في العصر البرونزي، التي يعود تاريخها إلى الفترة بين 3300 و1200 قبل الميلاد، نقطة تحول في صناعة الأدوات وتطور المجتمعات. وقد صُنعت من البرونز، وهو خليط من النحاس والقصدير، بتقنية الصب في قوالب، مما منحها متانة وكفاءة تفوق الأدوات الحجرية السابقة. واستخدمت هذه الرؤوس في أعمال النجارة والزراعة، كما كانت رمزًا للمكانة والقوة. ويظهر على العديد منها زخارف مميزة تعكس مهارة الحرفيين ومكانة أصحابها. ويتيح تصميم هذه الرؤوس تركيبها على مقابض، مما أتاح تحكماً أفضل وزاد من فعاليتها في احتياجات الحياة اليومية والاستخدامات القتالية. تعكس هذه الفؤوس تطور تقنيات التعدين، وازدهار التجارة، والتقدم التكنولوجي في العصر البرونزي.

تجسد خرزات الذهب من العصر البرونزي براعة فنية استثنائية، وتعكس تزايد التفاوت الاجتماعي والثراء والتعبير الفني خلال تلك الحقبة. وكانت هذه الخرزات، التي يعود تاريخها إلى الفترة بين 3300 و1200 قبل الميلاد، تُدرج غالباً ضمن المقتنيات الجنائزية، حيث حملت رمزية عميقة للمكانة والسلطة والارتباط بالمعتقدات الروحية. وقد اتُّبع في تشكيل هذه الخرزات أساليب متقنة، مثل الطرق، والدرفلة، والتثقيب، واستخدمت في صناعة العقود والأساور وتزيين الملابس. وكان الحصول على الذهب لتصنيعها يعتمد على شبكات تجارة بعيدة المدى، مما يعكس اتساع نطاق التبادل التجاري آنذاك. تعكس التصاميم المتقنة مستوى متقدّماً من براعة الصياغة المعدنية، كما تبرز الدور البارز للذهب في تجسيد المكانة والجمال والهوية الثقافية داخل المجتمعات القديمة.

 

تعكس رؤوس السهام الحجرية ذات الساق من العصر الحجري الحديث، التي يعود تاريخها إلى الفترة بين 10,000 و4,500 قبل الميلاد، تطوراً ملحوظاً في تقنيات الصيد وصناعة الأدوات. تميزت هذه النماذج، بخلاف الرؤوس البدائية السابقة، بوجود "ساق" ضيقة، تتيح تثبيتها بإحكام في عود السهم لضمان ثباتها. صُنعت بعناية من حجر الصوان أو حجر السبج البركاني، وغالباً ما تميزت بحواف مسننة لزيادة فعاليتها في الصيد أو القتال. تعكس هذه الابتكارات تركيز مجتمعات العصر الحجري الحديث على تطوير أدوات متخصصة، وتحقيق دقة أكبر في التصنيع، وتحسين المهارات الحرفية، مما أسهم في تلبية احتياجات الصيد والدفاع لدى المجتمعات الزراعية الناشئة. وتجسد هذه الرؤوس الإبداع البشري خلال هذه المرحلة المفصلية من الانتقال إلى الحياة المستقرة.

مثّلت رؤوس الفؤوس البرونزية ذات الفتحات تطوراً واضحاً خلال العصر البرونزي، حيث تميزت بتصاميم مفرغة أو "نوافذ" في نصالها أو هيكلها. يعود تاريخ هذه الرؤوس إلى الفترة بين 2000 و1000 قبل الميلاد، وقد جمعت بين الوظيفة العملية والدور الرمزي. فبينما احتفظ بعضها بقدراته التقليدية في القطع والتقطيع، صُمم العديد منها للاستخدامات الاحتفالية أو كرموز للمكانة الاجتماعية والسلطة الدينية. لم تكن هذه الفتحات مجرد عنصر جمالي، بل خففت من وزن الفأس، مما منحها مظهراً مميزاً وأبرز براعة الحرفيين في صب المعادن. تعكس هذه الفؤوس التطور التقني والتعقيد الاجتماعي في مجتمعات العصر البرونزي، حيث لم يكن للأدوات وظيفة عملية فقط، بل كانت وسيلة للتعبير عن الهوية والنفوذ.

تميزت التقاليد الجنائزية في العصر البرونزي بممارسات دفن متقنة تعكس المكانة الاجتماعية والمعتقدات حول الحياة الآخرة والعادات الثقافية. وتنوعت أنماط القبور بين الحفر البسيطة والمقابر الفخمة والهياكل الصخرية الضخمة. وكان يوضع مع المتوفى مقتنيات جنائزية، مثل الفخار والأسلحة والحلي والأدوات، تعبيراً عن مكانته الاجتماعية أو لمرافقته في رحلته إلى العالم الآخر كما كان يُعتقد. وحمل الخرز أهمية خاصة، حيث كان يُصنع غالباً من مواد ثمينة مثل الكهرمان، والزجاج، والأحجار شبه الكريمة، مما جعله رمزاً للثروة والحماية والمعتقدات الروحية. وغالباً ما كان يُنظم في عقود وأساور وتمائم، مما يعكس شبكات التجارة والمهارة الحرفية والهوية الثقافية لمجتمعات العصر البرونزي.

صورة توضيحية 2: الممالك القديمة

يُعتقد أن هذه القطعة البرونزية كانت صندوقاً لمستحضرات التجميل، وقد عُثر عليها في الحجر ويعود تاريخها إلى العصر النبطي أو الروماني. يتميز الصندوق بتصميم دقيق، حيث تنبعث أشعة من محور مركزي، وكان يُستخدم على الأرجح لحفظ مساحيق التجميل أو المراهم. تعكس خامته البرونزية ومستوى الحرفية فيه براعة فناني المعادن في ذلك العصر. تسلط هذه القطع الضوء على تفاصيل الحياة اليومية وطقوس التجميل وشبكات التجارة التي جعلت من الحجر مركزاً مزدهراً على طريق تجارة البخور، رابطاً بين الجزيرة العربية وأسواق البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة. ما يميّز هذا الصندوق أنه رغم العثور على نماذج مشابهة ثلاثية القوائم في جنوب الجزيرة العربية، فإن زخارفه تحمل بصمة نبطية مميزة، حيث تتشابه أقدامه المتعرجة مع نمط "خطوات الغربان" التي تُزيّن واجهات المقابر النبطية.

وعاء خزفي نبطي مطلي، يُرجَّح أنه صُنع في البترا وعُثر عليه في الحجر؛ يكشف عن الروابط الثقافية والتجارية المزدهرة داخل مملكة الأنباط. امتازت هذه الأوعية بحرفية عالية، بجدرانها الرقيقة المزينة بزخارف نباتية وهندسية وخطية دقيقة، غالباً بألوان الأحمر أو الأسود أو البني. يعكس وجود هذا الوعاء في الحجر هوية الأنباط القوية وشبكاتهم التجارية الواسعة، إلى جانب تطور تقنياتهم الحرفية التي ازدهرت في مدنهم. لم تكن هذه الأواني مجرد أدوات وظيفية، بل حملت أيضاً قيمة جمالية ورمزية، تجسد الذوق الفني الرفيع وتأثير فن وحرفية البترا في الحياة اليومية والاحتفالات في مختلف أنحاء المنطقة.

كانت الأختام الحجرية المنقوشة التي استخدمها الجيش الروماني أداة تنظيمية فعالة، حيث وُضعت على أرغفة الخبز لتمييزها بشعارات أو رموز خاصة تحدد الوحدات العسكرية، مما يضمن التوزيع العادل وجودة الإمدادات. يوفّر أحد هذه الأختام العسكري المكتشف في الحجر لمحة نادرة عن الوجود الروماني في المنطقة وأساليبه اللوجستية. يحمل هذا الختم نقوشاً أو رموزاً تشير إلى فيلق أو كتيبة معينة، مما يعكس انتشار الإمبراطورية الرومانية وانضباط شبكات إمدادها. لم تكن هذه الأختام مجرد وسيلة لتنظيم التموين، بل ساهمت أيضاً في تعزيز المساءلة، ومنع السرقة، وترسيخ النظام، مما يعكس دقة الإدارة العسكرية التي ضمنت استدامة الإمدادات حتى في أبعد مناطق النفوذ الروماني.

كانت مصابيح الزيت الفخارية الرومانية عنصراً أساسياً في الحياة اليومية، حيث استخدمت على نطاق واسع منذ القرن الأول قبل الميلاد وخلال توسع الإمبراطورية الرومانية. صُنعت هذه المصابيح من الطين وكانت تشوى في الأفران، وتضمنت خزاناً مركزياً للزيت، غالباً زيت الزيتون، مع فوهة لوضع الفتيل. تراوحت تصاميمها بين الأشكال البسيطة العملية والنماذج المزخرفة التي حملت نقوشاً دينية، ورسومات لحيوانات ومشاهد من الحياة اليومية، مما يعكس تنوع الأساليب الفنية والتأثيرات الثقافية الإقليمية. لم تقتصر وظيفة المصابيح على الإنارة، بل حملت أيضاً دلالات رمزية وزخرفية، حيث استُخدمت في الطقوس الدينية، والممارسات الجنائزية، وكقرابين، مما يؤكد مكانتها في الحياة الروحية والاجتماعية للرومان.

تروي العملات المكتشفة في الحِجر قصة غنية التفاصيل تعكس الاستقرار المتواصل في الموقع والتحولات الثقافية التي شهدها بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثالث الميلادي. تعكس هذه العملات، التي سُكّت بأيدي الدادانيين واللحيانيين والأنباط والرومان، الأهمية التاريخية والاقتصادية للموقع. وتضم المجموعة عملات تحمل صور الحارث الرابع، أحد أقوى ملوك الأنباط، إلى جانب أباطرة رومان مثل تراجان، الذي أشرف على ضم الأراضي النبطية إلى الإمبراطورية الرومانية. كما توثق العملات التي تحمل صور فيليبس قيصر والإمبراطورة هيرينيا إتروشيلا استمرار اندماج الحجر ضمن نفوذ الإمبراطورية الرومانية، مما يؤكد مكانتها الإقليمية البارزة على مر العصور.

صورة توضيحية 3: الممالك القديمة

نقش حجري يصوّر فارساً على ظهر جمل، ويقدّم لمحة عن الحياة الثقافية والدينية في العصر الداداني. يعكس هذا النحت، بتفاصيله الدقيقة، أهمية التجارة والتنقل والمكانة الاجتماعية في المجتمع الداداني. يتضمن النقش إشارة إلى شخصية كاهن يُدعى "عصل" أو "أفكال"، مما يبرز الدور المحوري للكهنة في المجتمع الداداني والتداخل الوثيق بين الدين والقيادة والحياة اليومية. قد يشير ذكر هذه الشخصية إلى دوره المحوري في الطقوس والممارسات التعبدية، فلم تكن هذه النقوش مجرد توثيق لشخصيات تاريخية، بل تعكس أيضاً التفاعل العميق بين الجوانب الروحية والاقتصادية والاجتماعية في العصر الداداني.

 كانت التماثيل الحجرية الدادانية، المقدمة كقرابين نذرية، جزءاً أساسياً من الممارسات التعبدية والتذكارية في ثقافة دادان القديمة، التي ازدهرت في منطقة العلا، بالمملكة العربية السعودية حالياً. وغالباً ما كانت هذه التماثيل تُشكّل بهيئةٍ بشرية ويتمّ تخصيصها للمعابد أو المواقع المقدسة، مثل أم درج، تعبيراً عن التقديس، ورجاءً بالبركة، أو وفاءً بالنذور. تراوحت أساليب نحت هذه التماثيل بين الأشكال البسيطة المجردة والتفاصيل الدقيقة، مما يعكس المهارة الفنية والقيم الثقافية آنذاك. احتوى بعضها على نقوش إهدائية، توفر رؤى قيّمة حول اللغة والمعتقدات الدينية في ذلك العصر. لم تكن هذه التماثيل مجرد أعمال فنية، بل كانت رمزًا للتقوى والامتنان والهوية الجماعية، حيث جمعت بين التعبير الروحي والفني في الممارسات الدينية لمجتمع دادان.

اللبان، وهو صمغ يستخرج من أشجار البوسويليا، والمرّ، صمغ يستخرج من شجرة الكوميفورا، وكلاهما ينمو في جنوب شبه الجزيرة العربية، كانا جزءًا أساسيًا من الطقوس الدينية منذ الألفية الأولى على الأقل. وكان الطلب المرتفع عليهما وندرتهما وصعوبة نقلهما لمسافات طويلة يجعلانهما منتجين باهظي الثمن. تبرز هذه المباخر الصغيرة لللبان أهمية اللبان في العصور القديمة.   

كانت المباخر في العصر الداداني جزءاً أساسياً من الطقوس الدينية والتقاليد الاجتماعية. وكانت تُصنع من الحجر أو المعدن أو الفخار، مع تزينيها بنقوش وزخارف دقيقة تعكس قيمتها الثقافية والروحية. واستخدمت البخور، مثل اللبان والمرّ، لإصدار دخان عطري خلال المراسم والطقوس، حيث كان يرمز إلى التطهير والتقديس والتواصل الروحي. لم يكن استخدام البخور مقتصراً على الجانب الديني فحسب، بل كان أيضاً رمزاً للثراء وعلامة على ازدهار التجارة، وذلك نظراً لقيمته العالية وتداوله في الأسواق القديمة. وهكذا، جمعت المباخر الدادانية بين الوظيفة العملية والمعنى الرمزي، مما جعلها عنصراً مهماً في الحياة الروحية والثقافية.

صورة توضيحية 4: قطع من العصر الإسلامي

تعكس قوارير الحجاج المكتشفة على طول طريق الحج الشامي جوانب الاستعدادات والطقوس التي رافقت رحلة الحجيج إلى مكة. صُنعت هذه القوارير عادةً من الخزف أو الزجاج أو المعدن، وتميزت بجسم مسطح ومقابض صغيرة، مما جعلها سهلة الحمل ومناسبة لنقل الماء أو الزيت وسوائل أخرى. كان الحجاج يملؤونها بالمياه المقدسة من المواقع الدينية، محتفظين بها كأوعية عملية وتذكارات من رحلتهم. ويعكس انتشارها الواسع على امتداد الطريق قروناً من التبادل الثقافي، إلى جانب الشبكات اللوجستية التي دعمت الحجاج في قطع المسافات الطويلة.

عُثر على هذه القطعة من وعاء يعود للعصر الإسلامي المبكر، حوالي القرن التاسع أو العاشر الميلادي، في مدينة القرح القديمة، وتعكس مستوى رفيعاً من الحرفية والتعبير الفني في ذلك العصر. يتميز الوعاء بزخارف هندسية ونباتية متقنة، مغطاة بطبقات زجاجية زاهية بألوان الأخضر والأصفر والبني، مما يعكس تأثير الفنون الزخرفية الإسلامية المبكرة. ويبرز النقش العربي المحفور على القطعة أهمية الخط العربي آنذاك، حيث كان يُستخدم لنقش عبارات بمعاني البركة والتقوى، أو لإضافة علامات تدل على الملكية. لم تكن هذه الفخاريات مجرد أدوات للاستخدام اليومي، بل كانت تحظى بمكانة خاصة في المناسبات الاحتفالية، مما يعكس دور القرح كمركز تجاري مزدهر وملتقى للفنون والثقافة الإسلامية.

عُثر على هذه القطعة من وعاء يعود للعصر الإسلامي المبكر، حوالي القرن التاسع أو العاشر الميلادي، في مدينة القرح القديمة، وتعكس روعة الزخرفة ببريق معدني، وهي إحدى السمات البارزة لفنون الخزف الإسلامي. يتميز بريقه الذهبي البني، الناتج عن عملية حرق معقدة، بقدرته على عكس الضوء بطريقة رائعة، مما يجسد مستوى متقدماً من الإتقان والإبداع الفني في ذلك العصر. تزينه زخارف نباتية وهندسية متقنة، تعكس مزيجاً من الجمال الفني والرمزية الثقافية. حظيت الفخاريات ذات البريق المعدني تحظى بمكانة رفيعة في المجتمعات الإسلامية، حيث اعتُبرت من السلع الفاخرة التي تؤكد دور القرح كمركز تجاري مزدهر وجزء من الشبكات التجارية والفنية في الفترة الإسلامية المبكرة.

كان مفتاح شفرة مورس أداةً أساسيّةً في نقل الرسائل المشفرة، ولعب دوراً محورياً في الاتصالات على طول خط التلغراف البري الذي واكب مسار سكة حديد الحجاز في أوائل القرن العشرين. ساهم هذا الخط في تحسين الاتصال عبر مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربيّة، حيث ربط بين المناطق النائية وسهّل تبادل الرسائل سريعاً، سواء في الشؤون السياسيّة أو العسكريّة أو التجاريّة. اعتمد المشغّلون على مفاتيح مورس لإرسال الرسائل باستخدام إشارات من النقاط والشرطات، ممّا أحدث نقلةً نوعيّةً في سرعة التواصل في المنطقة. يعكس وجود التلغراف بمحاذاة السكة الحديديّة اندماج البنية التحتيّة التقليديّة مع التكنولوجيا الحديثة، بما يسلط الضوء على التطوّرات التي أعادت تشكيل حركة التجارة والإدارة والترابط بين المجتمعات آنذاك.