معرض ندوة العلا العالمية للآثار

تمتاز العلا بمعالمها الطبيعية الغنية والمتنوّعة التي تعكس إرثها الثقافي العريق، بما يمنح كلّ مَن يزورها شعوراً بالدهشة والإعجاب والفضول لمعرفة المزيد عنها. فقد ساهم برنامج الأبحاث الأثرية، الذي يضمّ اليوم 12 مشروعاً للمسح والتنقيب يعمل على تنفيذها أكثر من 200 عالم آثار ومتخصّص في كافة أنحاء العلا، في تعزيز فهمنا لتاريخ المنطقة وطرق استخدام الأراضي وتمركز الإنسان في هذه المنطقة.

ويُظهر المعرض، الذي تمّ تصميمه بالتحديد لندوة العلا العالمية للآثار 2024، الشعوب التي توالت على هذه المنطقة وعبرت فيها على مدى آلاف السنين. فقد خلّفت هذه الشعوب أثراً مستدامًا وإرثًا عريقًا عند مرورها في هذه المنطقة، سواء عند رعيها قطعان الماشية، أو قيادة قوافل الجمال المحمّلة بالبخور أو مرور الحجاج فيها. وينعكس هذا الإرث جلياً وعلى نطاق واسع في الصروح المعمارية التي سادت في فترات ما قبل التاريخ وفنّ النحت على الصخور والنقوش من جهة، والآثار غير الملموسة التي تظهر من خلال الفنّ والثقافة والتقاليد والمعتقدات من جهة أخرى.

عصر ما قبل التاريخ

مرّت الشعوب على مدى آلاف السنين عبر العلا، مستفيدين ممّا تتغنّى به من معالم طبيعية لكونهم صيّادين متجوّلين. ونادراً ما يمكن العثور على دليل أثري يؤكد وجود هؤلاء المسافرين القدامى في تلك المنطقة، ما عدا بعض الأدوات الحجرية المصنوعة يدوياً مثل الفؤوس الحجرية في معظم الأحيان. وسرعان ما تصبح الأدلة أكثر وضوحًا في عصور ما قبل التاريخ اللاحقة، مع ظهور المعالم الأثرية الصخرية الضخمة مثل المصائد الحجرية والمنشآت الحجرية الضخمة المعروفة بالمستطيلات، بما يدلّ على تغيير ملحوظ في علاقة الإنسان بالأرض. ومع بدء ظهور ممارسات تدجين الحيوانات والزراعة في وقت لاحق، تغيرت الأنماط الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير مع التوجّه أكثر فأكثر نحو الاستقرار في مكان واحد، كما يظهر جلياً من خلال تطوّر العمارة المنزلية والحضرية خلال العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. ومنذ ذلك الحين، باتت العلاقة بين الذين فضّلوا الاستقرار وأولئك الذين واصلوا ترحالهم من مكان إلى آخر أكثر تغيّراً ويصعب الوقوف عليها من عدة جوانب في السجلات الأثرية. وما يتمّ استكشافه اليوم من خلال الأبحاث الأثرية ليس سوى انعكاسًا لأنماط معقّدة أكثر فأكثر من تطويع المعالم الطبيعية والتفاعل بين أفراد المستوطنات/الواحات والمجتمعات التي حافظت على نمط حياتها الرعوية القائمة على التنقّل المستمرّ.

الممالك العربية الشمالية القديمة

شهدت المراكز الحضرية تطوّرًا وازدهارًا كبيرًا في أواخر العصر البرونزي وعصر الحديد، في أعقاب تدجين الإبل الذي أتاح التجارة البرية وساهم في توسيع نطاقها، الأمر الذي أكد بدوره على أهمية الواحات التي لعبت دورًا محوريًا في صمود القوافل المحمّلة بالبخور وغيره من السلع ذات القيمة العالية من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مصر وبلاد الشام ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. وباتت مملكة "دادان" عندئذ، بفضل موقعها الاستراتيجي على طول "طريق البخور"، من أبرز المراكز الحضرية في شبه الجزيرة العربية خلال الألفية الأولى قبل الميلاد. وتشير الأدلة الأثرية الحديثة إلى هذه المدينة المتطوّرة ذات الهياكل المعمارية والاجتماعية والدينية المتقدّمة، فضلاً عن أثرها الواضح على الفنّ والعمارة والمعتقدات من خلال تفاعلها مع الأسواق التجارية في مصر وبلاد ما بين النهرين والبحر الأبيض المتوسط. وينعكس هذا الأثر جليًا في الأساليب والأنماط التي تميّزت بها تماثيل مملكة "دادان" وملاذها الجبلي الآمن في "أم درج".

واستمرّ التبادل التجاري والثقافي في القرن الأول قبل الميلاد في وادي العلا وتعزّز مع إنشاء مدينة الحِجر النبطية الأثرية. وكانت مدينة الحِجر ثاني أكبر مدينة تجارية في العالم بعد مدينة البتراء، حيث كانت تسيطر على طريق البخور والحدود الجنوبية للمملكة. وتعكس القطع الأثرية الفريدة من نوعها والتي تمّ اكتشافها من خلال أعمال التنقيب في الحِجر، بما في ذلك أقمشة الحرير والفخار والعملات المعدنية، طبيعة هذه المدينة وشبكة علاقاتها العالمية.

وبعد ضمّ الرومان لمملكة الأنباط في عام 106 بعد الميلاد، أصبحت الحِجر واحدة من أكثر المستوطنات بعدًا عن مقرّ الإمبراطورية، بما يؤكد أكثر فأكثر على الأهمية الاقتصادية لهذه المدينة في التجارة بين المناطق.

العصر الإسلامي

مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي ورحلة الحج إلى مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، شهدت حركة السفر عبر العلا والمنطقة المحيطة نموًا كبيرًا. وبالرغم من تراجع التجارة البرية لصالح النقل البحري عبر البحر الأحمر، إلّا أنّ أعداد المسافرين عبر طريق البخور واصلت الازدياد. وبدأت مجتمعات العلا والواحات المجاورة بتوجيه جهودها لتلبية احتياجات قوافل الحجاج الذين كانوا يصلون إليها بأعداد متزايدة، يطلبون الطعام والشراب.

وشهدت المنطقة تحولاً في حركة الاستقرار جنوباً، حيث تمّ هجر مواقع مثل الحِجر ودادان، وأصبحت قرح محطة أساسية على طريق الحج السوري الرئيسي، حيث أُشير إليها كواحدة من أعظم مدن غرب الجزيرة العربية بعد مكة والمدينة. وما زالت كنوز هذه المدينة الكبيرة تُكتشف تدريجيًا، حيث بدأت منازلها وشوارعها المنظمة تظهر من تحت رمال سهل القُرح الواسع. وتدل الجرار الإغريقية والفخاريات الصينية على اتصالاتها العالمية، بينما تعكس الخزفيات الإسلامية المزخرفة والمنازل الفسيحة ذات الفناءات المزينة وجود مجتمعٍ متطورٍ ومزدهر. لكن بحلول القرن الثالث عشر، هُجرت المدينة، لتصبح العلا "البلدة القديمة" في وسط الوادي بالقرب من دادان، مركز الاستقرار الرئيسي واستمرت كذلك حتى الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي بداية القرن العشرين تمّ إنشاء سكة حديد بين دمشق والمدينة، بما ساعد باختصار زمن رحلة الحج من أربعين يومًا إلى أربعة أيام فقط، وساهم بذلك بزيادة عدد الحجاج. واليوم، يستمر تدفق الزوار، الذين يجذبهم التراث الثقافي والطبيعي للعلا، ليكونوا أحدث المسافرين إلى العلا منذ 200,000 عام.